سأذكر هنا محبة الجمادات، ومظاهر تلك المحبة من فرح وسرور... وسجود، وحنين، وخوف على المحبوب، وحرص عليه،...
كما أني سأذكر ـ إن شاء الله تعالى ـ موضوعاً من النبات، وأخرى من الحيوان، وذلك لاستكمال الموضوع، حتى لا يُظَنَّ أن الجماد هو المنفرد بالمحبة، بل على العكس فإذا كان الجماد يحب ويفرح ويحن ويخاف… فالنبات والحيوان من بابا أولى، لأن فيهما حياة، وفي الحيوان نوعاً من الإدراك، لكني لن أطيل في هذا الموضوع، إن شاء الله تعالى.
1 ـ محبة جبل أحد
من المعهود أن يحب الإنسان الجماد، إذا كان المنظر جميلاً، لما يبعث في النفوس الهدوء والسكينة، والطمأنينة... أو مما يثير في نفس الإٍنسان مشاعرَ معينة أو ذكريات ... أو كان مما يرتاح فيه ... أما أن يحب الجمادُ الإِنسانَ فهذا غير مألوف ولا معروف ظاهراً، لأنه جماد لا ينطق.
ولكن الله سبحانه وتعالى جعل الإدراك في الجمادات، كما بينت ذلك في "الإدراك عند الجمادات" ومن مظاهر الإدراك: الحب والبغض، والبكاء... والفرح والسرور، والغضب، والطاعة، والخشوع، والرهبة، والرغبة، والذكر، والخشية... الخ.
من الإدراك في جبل أحد، ما أكرمه الله تعالى أن جعل فيه محبة النبي صلى الله عليه وسلم،كما جعل محبته في النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وتواتر ذلك عنه صلى الله عليه وسلم(). لكني أقتصر على ذكر حديثين فقط.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً، وبدا له أُحُدُ، قال: ((هذا جبل يحبنا ونحبه …)) متفق عليه، واللفظ للبخاري(
وفي رواية لهما( أيضاً رضي الله عنه ، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحدٍ فقال: ((إن أُحُداً جبلُ يحبنا ونحبه)).
وعن أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى غزو تبوك... الحديث بطوله، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إني مسرع، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث)) فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((هذه طابة، وهذا أًحد، وهو جبل يحبنا ونحبه...)) متفق عليه(
والشاهد في هذين الحديثين قوله صلى الله عليه وسلم: ((يحبنا ونحبه)).
إن الإنسان السوي يحب المناظر الطبيعية الجميلة، من جبال مكسوة بالخضرة، وبساتين منوعة الخضرة، ... ويألف ذلك، ويرغب تكرار النظر إليه، والجلوس عنده، والتمتع فيه، لما يجد في نفسه من أُنْسٍ وراحة ومتعة وهناء وطمأنينة وهدوء وسعادة...
كما يحب الشيء الجميل، والشيء الحسن، حتى لو كان جماداً.
أما محبة الجماد الصلد القاسي للإنسان، فهذا غير مألوف ولا معهود، بل مستغرب وغير معروف، ولهذا قدَّمه صلى الله عليه وسلم، لإظهار حصوله، وبيان وجوده، وتأكيد فضله، ((يحبنا ونحبه)) في جميع روايات.
ومن نظر إلى جبل أحد، لا يجد فيه ـ من حيث الظاهر ـ ما يفرقه عن غيره من الجبال، بل قد يكون دون غيره بكثير، فلا شجر ولا ماء ولا خضرة … لديه، لذا قل أن يثير ما يُحَبُّ لأجله. فلما غرس الله سبحانه وتعالى فيه محبة النبي صلى الله عليه وسلم، بادله النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفسَ الحب والشوق.
كما أن في هذا النص إظهاراً لمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث غرس الله سبحانه وتعالى في الجمادات حبه، والشوق إليه... مع ما في الجبال من يابسة وفظاظة وقوة وصلابة وكقافة.
فإذا كانت الجمادات ـ والمتمثلة بالجبال في هذا الحديث ـ وهي التي لا تعقل ولا تدرك في الظاهر، قد أسكن الله سبحانه وتعالى فيها محبة نبيه وصفيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم… فما أدل على محبة الله تعالى لنبيه عليه وآله الصلاة والسلام،ـ وعلو قدرة ورفعة مكانته عليه وآله الصلاة والسلام عنده سبحانه وتعالى.
وإذا كانت الجمادات ـ وهي التي لا تفعل ولا تدرك، وغير مكلفة في الظاهر – ومع هذا تحبه صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون الإنسان العاقل المدرك المكلف المأمور؟!.
2- حنين الجذع
كان النبي صلى الله عليه وسلمـ قبل صنع المنبر الشريف ـ يخطب قائماً، معتمداً على جذع نخلٍ منصوب على يمين المحراب اليوم([)، فإذا طال وقوفه صلى الله عليه وسلم، أو شعر بتعب، وضع يده الشريفة على ذلك الجذع.
فلما كثر عدد المصلين، وضاق المسجد بأهله، بحيث لم يعد يَري من صلي في آخر المسجد ـ أو من كان جالساً في آخره ـ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إذا وقف في مقدمة المسجد، إضافة إلى تقدم سن النبي صلى الله عليه وسلم، مما جعل الصحابة رضي الله عنهم يشفقون عليه صلى الله عليه وسلم إذا طال وقوفه، لذا اقترحوا عليه رضي الله عنهم أن يصنعوا له منبراً، فوافق صلى الله عليه وسلم على ذلك، فصنعوه من طرفاء الغابة.
فلما وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم المنبَر في موضعه، وخرج صلى الله عليه وسلم من بابا الحجرة الشريفة، يوم الجمعة يريد المنبر، ليخطب عليه، فلما جاوز الجذع الذي كان يخطبُ عنده، ولم يقف عنده، وصعد المنبر، وإذا بالجذع يصرخ صراخاً شديداً، ويحن حنيناً مؤلماً، حتى أرتج المسجد، وتساقط الغبار، وتشقق الجذع، ولم يهدأ، فتأثر الصحابة رضي الله عنهم، وبكوا بكاءً شديداً لحنين هذا الجذع.
هذا الجذع الميت يحن ويصيح؟! نعم.
نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر، وأتي الجذع، فوضع يده الشريفة عليه، ومسحه، ثم ضمه صلى الله عليه وسلم بين يديه إلى صدره الشريف حتى هدأ، ثم خيره صلى الله عليه وسلم بأن سارره وهو الجماد الميت ـ بين أن يكون شجرة في الجنة؛ تشرب عروقه من أنهار الجنة وعيونها، ويأكر منه المؤمنون فيها، وبين أن يعود شجرة مثمرة في الدنيا، وذلك بأن يعيده إلى بستانه الذي كان فيه، فيثمر من جديد، ويأكر منه المؤمنون؟.
فاختار الجذع المشوق الحنّان أن يكون شجرة في الجنة، فقال عليه وآله الصلاة والسلام: ((أفعل إن شاء الله، أفعل إن شاء الله، أفعل إن شاء الله))، فسكن الجذع. ثم قال عليه وآله الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لبقي يحن إلى قيام الساعة شوقاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم )) كما جاء في عدد من الأحاديث.
هذا جماد ابتعد عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمتاراً أربعة أو خمسة، فلم يتحمل هذا البعد، ولم يطقه، فصرخ، وحنَّ شوقاً إليه عليه وآله الصلاة والسلام، وحزناً على فراقه صلى الله عليه وسلم، ولم يهدأ حتى ضمه صلى الله عليه وسلم وخيّره.
ما هذا العقل عند هذا الجماد ـ لو جاز لي أن أقول ـ لم يرض أن يعود ثانية شجرة مثمرة في بستانه الذي كان فيه، لأنه لو عاد فيه لكان بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات أو مئات الأمتار، فإذا لم يطق بُعْدَ أمتارِ معدودات، فكيف سيصبر ويطيق بُعْدَ المسافة الطويلة ولم يرض أن يعود شجرة في الدنيا مرة ثانية، لأنه لو حصل ذلك فلا بدّ من الفراق مرة أخرى، وذلك إما بموته هو، أو بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الدار ـ وكلاهما حتم مقضي ـ وقد يكون موته هو قبل انتقال النبي صلى الله عليه وسلم، وما حن وصرخ إلا لأنه صلى الله عليه وسلم ابتعد عنه أمتاراً.
وفي كل الأحوال البعد حاصل، والفراق آتِ وطويل، وإذا لم يصبر ولم يتحمل بُعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه عدة أمتار، فكيف سيكون حاله إذا أعيد إلى بستانه، وابتعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافة طويلة.
لذا اختار الجنة التي لا مت فيها، بل فيها البقاء والحياة، وإن فارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بالموت ـ أو هو بالدفن والبلاء مثلاً، فإنما هو فراق مؤقت وقصير، لحياة طويلة وإقامة مستديمة، ودار إقامة. ولم يرد الفناء مع البقاء المحدود، لأنه الجنة هي دار الحياة، وليس فيها موت.
ويكون الجذع الحتّان بذلك قد أقام الله سبحانه وتعالى ـ بحنينة وشوقه ـ الحجةَ على جميع المسلمين فيما لو قصَّروا أو تهاونوا، إذ هم أَولى بهذا الشوق والحنين من هذا الجذع الجماد الميت.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى( يا معشر المسلمين، الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه صلى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ما أعطي الله تعالى نبياً ما أعطي محمداً صلى الله عليه وسلم.
فقال له عمر بن سواد: أعطي عيس عليه السلام إحياء الموتى.
فقال الشافعي رحمه الله: أعطي محمداً صلى الله عليه وسلم حنين الجذع حتى سُمع صوته، هذا أكبر من ذلك. 1هـ(
فإحياء الميت إعادته إلى ما كان عليه، أما حنين الجذع فهو أكبر، لأن الجذع أصله نبات، فلو أعيد كان نباتاً، والنبات لا يتكلم ولا ينطق ولا يحس الإحساس الذي يحسه العاقلون من المدركين، بينما هنا ـ وهو جماد ميت ـ جعله يدرك ويحس، ويحب ويحزن… كحال اشرف المخلوقين العاقلين المدركين، فكان هذا أبلغ وأعظم من إحياء الموتي، والجذع تجاوز إحياؤه النبات، إلى أشرف المخلوقين حيث انقلب من جماد مت إلى عاقل مدرك كامل الصفات، والقدرة الإلهية ولا يعجزها ذلك.
وقد تواتر حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشوقه إليه عندما فارقه صلى الله عليه وسلم، حيث ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عدد من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقد نص عدد من العلماء على ذلك، وقد ذكرت في ((فضائل المدينة المنورة)) و ((الإدراك عند الجمادات)) و ((شوق الجمادات)) مجموعة منها، فمن أراد الوقوف عليها، فليرجع إلى تلك الكتب
3- سلام الحجر
ومن مظاهر المحبة: السلام، فالإنسان لا يسلم غالباً إلا على من يعرف ويحب، وإن كان الشرع قد حث على السلام ـ مطلقاً ـ على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين.
فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجراً بمكه كان يسلم عَلَيَّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن))رواه مسلم(
وفي رواية عن أحمد والترمذي والبيهقي( ((كان يسلَّم عَلَّي ليالي بُعثت)).
وهذا السلام من هذا الحجر يوضحه حديث على رضي الله عنه ، وإن كان الحجر لم يتفرد بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل يشاركه الجبل والشجر والمدر.
فعن على بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؛ فخرجنا معه في بعض نواحيها، فمررنا بين الجبال والشجر، فلم نمر بشجرة ولا جبل، إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
وفي لفظ ((فجعل لا يمر على شجرٍ ولا حجرٍ إلا سلَّم عليه)).
وفي لفظ للبيهقي: ((فما استقبله شجر ولا مدر إلا قال له: السلام عليك يا رسول الله)).
وفي لفظ له أيضاً: لقد رأيتني أدخل معه ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، وأنا أسمعه، رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي، والدارمي وأبو نعيم والبيهقي(
ففي هذه النصوص: لا يمر بحجر ولا شجر ولا جبل ولا مدر إلا وسلَّم عليه، عليه وآلة الصلاة والسلام.
ومن الملاحظ أن في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه ، أن الذي سمع السلام هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان بمفرده. أما في حديث على رضي الله عنه فقد سمعه على رضي الله عنه ومن معه، إضافة إلى سماع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو نطق صريح من هذه الجبال والأشجار والأحجار في سلامها على النبي صلى الله عليه وسلم.
كما روى أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم، حين أراد الله عزّ وجلّ كرامته، وابتدأه بالنبوة، جعل لا يمر في شعاب مكة وبطون أوديتها، فيمر بحجر أو شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله(
ويلاحظ هنا صيغة السلام: السلام عليك يا رسول الله. ولم يكن هذا السلام معروفاً في الجاهلية. فهي تعلم إذاً انه رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذا خاطبته بهذه الصيغة، فما بلا فسقة الإنس والجن؟!.
فأقتصر على رواية واحدة.
فعن يعلى بن مرة الثقفي رضي الله عنه قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلنا منزلاً، فنام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت شجرة تشق الأرض، حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما أستيقظ ذكرت له ذلك، فقال: ((هي شجرة استأذنت ربها عز وجل في أن تسلِّم عليِّ، فأذن لها)) رواه أحمد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي، ورجال أحمد وأبي نعيم البيهقي رجال الصحيح(، وللحديث شواهد.
وقد بلغ الأمر ذروته في سجود الحجر والشجر:
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب ـ وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت إليهم ـ قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا ببعثه الله رحمة للعالمين.
فقاله له أشياخ من قريش: ما علمك؟
فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة، لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يُسجَدُ إلا لنبي. رواه ابن شيبه واللفظ له، والترمذي وحسنه، وأبو نعيم، والحاكم وصححه، والتيمي والبيهقي، وكلهم من طريق قراد [واسمه عبدالرحمن بن غزوان الضَّبِّي] وهو ثقة، عن يونس بن أبي إسحاق ـ وهو صدوق من رجال مسلم ـ عن أبي بكر بن أبي موسى ـ وهو ثقة ـ عن أبيه.
وقال الحافظ رحمه الله في الفتح ـ عند شرحه لحديث السيدة عائشة رضى الله عنها في بدء الوحي ـ : وأول ذلك مطلقاً ما سمعه من بحيرا الراهب، وهو عند الترمذي بإسناد قوي عن أبي موسى …إلخ.
وقال في الإصابة ـ في ترجمة الراهب بحيرا ـ : وقد وردت هذه القصة بإسناد رجاله ثقات، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أخردها الترمذي وغيره، ولم يسم فيها الراهب، وزاد فيه لفظه منكرة، وهي قوله: ((وأتبعه أبو بكر بلالاً)) ، وسبب نكارتها أن أبا بكر رضي الله عنه حينئذ لم يكن متأهلاً، ولا اشترى يومئذ بلالاً، إلا أن يحمل على أن هذه الجملة الأخيرة مقتطعة من حديث آخر، أدرجت في هذا الحديث، وفي الجملة هي وهم من أحد رواته. 1هـ.
قلت: ما ذكرته من أصل الحديث هو رواية ابن أبي شيبة، وليس فيه تلك الزيادة، وإنما هي في سنن الترمذي ومن بعد، وبما قال الحافظ رحمه الله يجاب على استنكار الحافظ الذهبي رحمه الله على هذه الجملة في تلخيص المستدرك
ولسجود الشجر شاهد من حديث ابن عباس رضى الله عنهما، ولفظة:
فعنه رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ كان يداوي ويعالج ـ فقال: يا محمد، إنك تقول أشياء، فهل لك أن أداويك؟ قال: فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له: ((هل لك أن أريك آية؟))وعنده نخل وشجر، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنقاً منها، فأقبل إليه، وهو يسجد ويرفع، ويسجد ويرفع رأسه، حتى انتهي إليه، فقال بين يديه، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ارجع إلى مكانك)) فرجع إلى مكانه، فقال: والله لا أكذبك بشيء تقوله بعدها أبداً. رواه أبو يعلى برجال الصحيح ـ عدا إبراهيم بن الحجاج ـ وهو ثقة، وصححه ابن حبان، ـ ورواه الطبراني في الكبير وابن سعد وأبو نعيم والبيهقي في دلائلهما هكذا. ورواه أحمد، والترمذي والحاكم ـ وصححاه ـ والبخاري في التاريخ، والطبراني في الكبير، والدارمي والبيهقي بنحوه أيضاً من غير لفظ السجود(. والله تعالى أعلم.
والسجود نوعان:
الأول: سجود عبادة، فهذا لا يجوز شرعاً، لا في شرعنا ولا في شرع من قبلنا إلا الله عزّ وجلّ.
والثاني: سجود تحية وتعظيم، وهذا كان موجوداً من بدء خلق الإنسان إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو جائز في الديانات السماوية السابقة. ومنه سجود الملائكة لآدم عليه السلام على رأي الكثيرين. قال الله عز وجل: )وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين( [البقرة: من الآية34], والنصوص في ذلك كثيرة.
وقال الله عز وجل في قصة يوسف وأبويه عليهم السلام: )وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدا ([يوسف: من الآية100], هذا سجود تحية وتعظيم، وهو موجود في شرع من بلنا، وبقي مستمراً إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدل على ذلك:
عن عبدالله بن أبي أوفي رضي الله عنه قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما هذا؟)) يا رسول الله، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: ((فلا تفعل، فإني لو أمرت شيئاً أن يسجد لشيء لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها…)) الحديث، رواه أحمد ابن ماجة وابن حبان ورجاله رجال الصحيح.
ورواه أحمد البزار برجال الصحيح، والحاكم وصححه وأقره الذهبي، وجعلوه من حديث معاذ بنفسه وللحديث شواهد أخرى كثيرة.
فهذا السجود هو تحية وتعظيم وإكبار، وليس هو سجود عبادة. مع هذا فقد حرَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا النوع من السجود أيضاً، وبيَّن أنه لو جاز لأحد أن يسجد لأحد لكان ذلك للمرأة أن تسجد لزوجها، لعظم حقه عليها، ولكنه لا يجوز.
وسجود الشجر والحجر والدواب للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للتعظيم، وليس هو سجود عبادة، فتنبه لذلك، والله تعالى أعلم.
ومن المظاهر المحبة إظهار السرور والبشر بقدوم الحبيب، فينعكس ذلك نوراً وإضاءة على المحب، كما أن من مظاهر المحبة الحزن والأسى على فراق المحبوب. وهكذا كانت المدينة يوم استقبالها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، ويوم توديعها له صلى الله عليه وسلم يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أضاء من المدينة كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلم من المدينة كلُّ شيء، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا. رواه أحمد، والترمذي وابن حبان والحاكم ـ وصححوه ـ وابن ماجه والدارمي والبغوي وأبو يعلي وغيرهم(
فرحت المدينة به صلى الله عليه وسلم يوم قدومه عليها فأضاءت، وحزنت عليه صلى الله عليه وسلم يوم انتقاله إلى الرفيق الأعلى فأظلمت، وهكذا شأن المحب. والله تعالى أعلم.
إن من شأن المحب أن يخاف على محبوبة من كل شيء بسيئة، فضلاً عن أن يؤذيه، أما إذا كان الأمر يصل إلى حد الهلاك فلا يمكن للمحب أن يصبر على هلال محبوبه، لذا فإنه يسارع إلى العمل على نجاته وإنقاذه منه بكل وسيلة يستطيع القيام بها، وهذا حصل فعلاً.
لما انتهت غزوة خيبر سألت يهوديةُ عن أحب الأعضاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشاة، فلما أخبرت بذلك، ذبحت شاةُ وطبختها، وسمَّتها، وزادت السم في الذراع، وقدمتها للني صلى الله عليه وسلم، فلما جلس ومعه بعض أصحابه رضي الله عنه ن وتناول الذراع، أخبرته الذراع بأنها مسموعه، وأن الشاة كلها مسمومة فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أرفعوا أيديكم)) ثم دعا يهود فاعترفوا بذلك.
وقد وردت هذه القصة في الصحيحين وغيرهما عن عدد من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، كما رواها أهل المغازي والسير في غزوة خيبر. لكنني سأقتصر على ذكر بعض النصوص.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن أمرة يهوديه أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجئ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها عن ذلك، فقالت: أردت لأقتلك، قال: ((ما كان الله ليسلطك على ذلك)). متفق عليه واللفظ لمسلم([
جاء في رواية البزار([فقط الأعضاء المسجلين والمفعلين يمكنهم رؤية الوصلات . إضغط هنا للتسجيل]) من هذا الحديث: فلما مدَّ يده ليأكل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عضواً من أعضائها يخبرنا أنها مسمومة)) ثم ذكر الحديث.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لما فُتحت خيبر، أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم [زاد في رواية أبي داود والبيهقي، فقال صلى الله عليه وسلم : ((ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة))] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أجمعوا لي من كان ها هنا من اليهود))، فجُمعوا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقوني عنه؟)) فقالوا: نعم يا ابا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أبوكم؟)) قالوا: أبونا فلان: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذبتم بل أبوكم فلان)) فقالوا: صدقت وبررت… الحديث ، وفيه: ثم قال لهم: ((هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟)) نعم، فقال: ((هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟)) فقالوا: نعم. فقال: ((ما حملكم على ذلك؟)) فقالوا: أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك. رواه البخاري(.
وفي حديث جابر رضي الله عنه عند أبي داود( ـ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرفعوا أيديكم)) وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهوديه، فدعاها، فقال لها: ((أسممِت هذه الشاة)) قالت اليهوديه: من أخبرك؟ قال: ((أخبرتني هذه في يدي، للذراع)).
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمسكوا، فإن عضواً من أعضائها يخبرني أنها مسمومة)) رواه البزار برجال ثقات(
إلى آخر النصوص في ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: في الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيب، وتكليم الجماد له صلى الله عليه وسلم 1هـ.
وهكذا شأن المحب يخاف على محبوبة، يغار على محبوبه، ويخاف عليه من الأذي، فكيف بما هو أعظم؟.
كما أن من شأن المحب أن يغار على محبوبه التقي النقي الورع الزاهد... أن يدخل جوفه مالُ مشبوه، أو طعام مشبوه... لأن في ذلك إيذاء له، وهو لا يريد له الإيذاء، بل يخاف عليه أشد من خوفه على نفسه، وهذا ما حصل من الشاة التي ذُبحت من غير إذن أهلها، وقُدمت له صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أصحابه رضي الله عنهم، حيث أخبرته بذلك.
فعن رجل من الأنصار رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو على القبر ـ يوصي الحافرَ: ((أَوْسع من قِبَلٍ رِجْليه، أَوْسع من قِبَل رأسه)) فلما رجع، استقبله داعي امرأة، فجاء، وجئ بالطعام، فوَضع يدَه، ثم وضع القوُم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمةّ في فمه، ثم قال: ((أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)) فأرسلت المرأة، قالت يا رسول الله، إني أرسلت إلى البقيع، ليُشترى لي شاة، فلم أجد، فأرسلتُ إلى جارٍ لي قد اشترى شاةً: أن أرسل إلىَّ بها بثمنها، فلم يوجد فأرسلتُ إلى امرأته، فأرسلتْ إلىّ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعميه الأساري)) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي والدارقطني بأسانيد صحيحة(
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مروا بامرأةٍٍ، فذبحت لهم شاةً، واتخذت لهم طعاماً، فلما رجع قالت: يا رسول الله، إنا تخذنا لكم طعاماً، فادخلوا فكلوا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا لا يبدءون حتى يبتدئ النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم لقمةَّ، فلم يستطع أن يسغيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذه شاة ذبحت بغير إذن أهلها)) فقالت المرأة: يا نبي الله، إنا لا نحتشم من آل سعد بن معاذ، ولا يحتشمون منا، نأخذ منهم، ويأخذون منا. رواه أحمد برجال الصحيح(
فقد حفظ الله سبحانه وتعالى نبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم أن يأكل مالاً حراماً، فأخبرتها للقمة التي وضعها صلى الله عليه وسلم في فمه. وكل ذلك حفظ من الله تعالى وعناية. والله تعالى أعلم.
ومن مظاهر الحب: إظهارُ السرور من المحب بين يدي محبوبة، ولهذا كان الطعام يسبح بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لون من ألوان التعبير عن المحبة، وإن كان خارقاً للعادة، فإن كل ما ذكرته ـ وما سأذكره ـ هو خارق للعادة أيضاً.
فعن عبدالله بن معود رضي الله عنه قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقَّل الماء، فقال: ((أطلبوا فضلة من ماء)) فجاؤوا بإناه فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: ((حيَّ على الطهور المبارك، والبركة من الله)) فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. رواه البخاري(
وفي رواية الإسماعيلي والترمذي والبيهقي(ـ لهذا الحديث ـ :كناب نأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم الطعامَ، ونحن نسمع تسبيح الطعام.
وهذا النص يدل على التكرار ((كنا نسمع))، والله تعالى أعلم.
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول صلى الله عليه وسلم في سفر، فدعا بالطعام، وكان الطعام يسبح، رواه ابن حبان () بسند قوي.
وإذا كان في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كان المسبِّح هو الطعام، فإنا نجد الحصى تسبِّح بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، ولم يقتصر تسبيحاً على كونها في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل سبحت في يد أبي بكر ويد عمر ويد عثمان رضي الله عنهم ، ولكن ذلك كان بدفعه هو صلى الله عليه وسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الحصيات ـ ظاهراً ـ ولكن الفعل أبلغ من القول.
فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: إني لشاهد عند النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة، وفي يده حصيات، فسَبَّحْنَ في يده ـ وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ يسمع تسبيحَهن مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر، فسبَّحَن في يده، يسمع تسبيحَهن مَنْ في الحلقة، ثم دفعهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان، فيبَّحْن في يده، ثم دفعهن إلينا، فلم يسبّحن مع أحد منا. رواه أبو نعيم في دلائل النبوة ـ بإسنادين ـ أحدهما برجال ثقات. ورواه البزار بإسنادين أحدهما برجال ثقات، ورواه ابن أبي عاصم بإسنلد جيد، ورواه البيهقي والطبراني في الأوسط، من طريق آخر. وقال الهيثمي عن إسناد البزار الأول: إسناده صحيح. وقال موطن آخر: رواه البزار بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات، وفي بعضهم ضعف ورواه التيمي مختصراً ومطولاً في الدلائل(
قلت: وإسناد أبي نعيم الأول وإسناد البزار الثاني كافيان لصحة الحديث. والله تعالى أعلم.
كما أن من شأن المحب الخوف على محبوبه فيما يرتاب منه، ويخشى عليه، ولما كان الجن من عالم غير عالم الإِنس، وقد جلس نفر منهم خلف الشجرة يستمعون القرآن الذي كان يقرؤه عليه وآله الصلاة والسلام، في تلك الليلة المؤلمة، بعد أن لقِيَ من أهل الطائف ما لفي، لذا أخبرته تلك الشجرة بوجود هؤلاء النفر الغرباء الذين يستمعون
إليه صلى الله عليه وسلم.
عن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، قال: سألت مسروقاً: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك (يعني عبدالله) أنه آذنته بهم شجرة. متفق عليه([
كما أن من شأن المحب إسعاد محبوبه، ومساعدته على الخير، ومعاونته عليه، والشهادة له فيما يعلم. وإن مما يعلم الجماد والشجر... رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أسْتُشْهد شيء من ذلك: نطق به؛ إبلاغاً للأمانة، وتصديقاً للرسالة، وأداء للشهادة.
وهذا ما حصل عندما استشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شجرةَ سَمُرٍ من الشجر.
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهم قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابُي، فلما دنا منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين تريد؟)) قال: إلى أهلي، قال: ((هل لك إلى خير؟)) قال: ما هو؟، قال: ((تشهد أن لا إله إلا لله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله)) قال: هل من شاهد على ما تقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((هذه السَّمُرَة)) فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلات تخُدُّ لأرض خداً، حتى كانت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت أنه كمان قال: ثم رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه، وقال: إن يتبعوني أتيتك بهم، وإلا رجعت إليك، فكنت معك. رواه ابن حبان والدارمي وأبو يعلى والطبراني في الكبير والبزار والبيهقي في الدلائل. وقال ابن كثير ـ بعد ذكره من طريق الحاكم ـ: هذا إسناد جيد ولم يخرجوه، ولا رواه الإمام أحمد، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى والبزار. وقال البوصيري ـ فيما نقله الشيخ حبيب الرحمن، في تعليقه على المطالب-: رواه أبو يعلى بسند صحيح والبزار والطبراني وابن حبان في صحيحه(.
قلت: وللحديث شواهد من حديث جابر بن مسلم، وأنس وعمر وابن عباس ويعلى وبريدة رضي الله عنهم. وقد ذكرت طرقهم وروايتهم في ((شوق الجمادات)).
وفي هذا النص أمران:
أولاً ـ طاعة الشجر في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أمرها في الحضور ثم في الانصراف ـ وهذا خارق للعادة.
ثانيًا ـ شهادة الشجر له صلى الله عليه وسلم ، لله تعالى بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، مع النطق بذلك، بحيث سمع الأعرابي هذا الكلام منها، مما حمله على هذا القول. وكل ذلك خارق للعادة أيضاً. ولكن الله تعالى الذي أيد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أكبر من هذا: قادر على ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
إن من شأن المحب عدم إزعاج من يحب، ومن شأنه توقيره واحترامه، والعمل على إدخال السرور والراحة إليه. وإذا كان الإنسان العاقل المكلف يفعل ذلك مع من يحب، فإن الحيوان قد صدر منه نحو ذلك، وذلك أن الله عزّ وجلّ غرس يف الجمادات والنباتات والحيوانات الاعتراف به والعلم به صلى الله عليه وسلم ، ومن لازم ذلك توقيره واحترامه وعدم إزعاجه والعمل على راحته صلى الله عليه وسلم.
وبذلك يكون الحيوان قد شارك الإنسان في ذلك. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد غرس في نفوس الصحابة الكرام رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان ـ محبة النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته وتوقيره وتعزيزه واحترامه… والعمل على راحته… وظهر ذلك منهم بمظاهر عديدة … فإن الحيوان قد أظهر شيئاً من ذلك، لكن على حسب حاله.
فعن عائشة رضي الله عنها قال: كان لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحشُ، فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب واشتد، وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل، وبض فلم يترمرم، ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت، كراهية أن يؤذيه. رواه أحمد ـ من طريقين ـ وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل والدارقطني برجال الصحيح. وقال ابن كثير رحمه الله عن سند أحمد: هذا الإسناد على شرط الصحيح، ولم يخرجوه، وهو حديث مشهور(). 1هـ. والله تعالى أعلم.
فهذا حيوان بهيم يحترم ويقدِّر ـ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويبجله ويجله، ولا يزعجه يحركته، ولا يؤذيه بلعبه واشتداده، فإذا أحس بدخوله صلى الله عليه وسلم ربض ولم يتحرك، وهو حيوان. فماذا يقال للمسلمين الذين يصدر عنهم ما يؤذي من صراخ وعويل… عند الحجرة الشريفة، وعند افتتاح أبواب الحرم في السَحَر، وفي الروضة الشريفة، وفي المناسبات؟! أسأل الله تعالى الأدب الكامل معه ومع نبيه صلى الله عليه وسلم ، إنه قادر.
وأذكر حادثه طريفه غريبة، تدل على مدي أدب الحيوانات واحترامها وتقديرها للنبي صلى الله عليه وسلم ، مع أنها حصلت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
فعن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ركبت البحر، فأنكسرت سفينتي التي كنت فيها، فركبت لوحاً من ألواحها، فطرحنى اللوح في أجمة فيها الأسد، فأقبل إلى يريدني، فقلت يا أبا الحارث، أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم [زاد في رواية، كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد] فطأطأ رأسه، وأقبل إلىّ، فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة، ووقفني على الطريق، ثم هَمْهَمَ، فظننت أنه يودعني. فكان لك آخر عهدي به. رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي، والطبراني في الكبير، والبزار، وعبدالرازق في مصنفه، وأبو نعيم في الحلية والدلائل، والبيهقي في الدلائل، والتيمي في الدلائل، وأبو يعلى، وعزاه السيوطي في الخصائص: لابن سعد وابن منده، إضافة لأبي يعلى والبزار والحاكم... (
قلت: ورجاله عند عدد منهم ثقات، وقد ورد عند أغلبهم: عن محمد بن المنكدر عنه، لكن ورد عنه أيضاً من طريق أبي ريحانة.
وقد قال ابن سيد الناس رحمة الله تعالى(
والليث أذوي في سـفينة مـفـرداً
4- وأما سلام الشجر 5 ـ سجود الحجر والشجر 9 ـ تسبيح الطعام 10 ـ تسبيح الحصى 11 ـ إخبار الشجرة له ليلة الجن 12 ـ شهادة الشجر بنبوتهصلى الله عليه وسلم 6ـ إضاءة المدينة يوم دخولهصلى الله عليه وسلم 7 ـ إخبار الشاة المسمومة 8 ـ إخبار الشاة التي ذبحت بغير إذن أهلها 13 ـ أدب الحيوانات
باروم في فيـفــاء قـفر بلـقـع
ما زال يـكلــؤه إلى أن دلَّــه
عـند الأمـان على سـواء المشـرع
فأذا كان الأسد ـ وهو الأسد، ويظهر أنه جائع لأنه جاء يريده ـ عندما سمع من سفينةَ رضي الله عنه عنه أنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا أن طأطأ رأسه وتأدب، ثم لم يكتف بذلك، بل بقي يسير معه ويوجهه من مكان لآخر، وإذا سمع صوتاً ذهب إليه، ثم عاد إلى سفينةّ رضي الله عنه ، حتى أوصله إلى الطريق الذي فيه الجيش الذي كان قد ابتعد عنه.
هذا حيوان مفترس متوحش... وفعل هذا الفعل، فماذا يقول المسلموت المقصِّرون؟!.
وفعل الأسد إنما هو بإذن الله تعالى قذف في قلبه ونفسه التأديب والاحترام )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه([النساء: من الآية64] والله تعالى أعلم.
إن قصة سجود الجمل للنبي صلى الله عليه وسلم وانقياده له وخضوعه بين يديه واستجابته لأمره... متواترة([، وتكررت في مواطن متعددة، وقد رواها عدد من الصحابة، منهم: أنس بن مالك، وجابر بن عبدالله، وعبدالله بن عباس، وأبو هريرة، وعائشة، ويعلى بن مرة، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن جعفر، وعبدالله بن أبي أوفى، وغيلان بن سلمة ـ وفي آخرين، رضى الله تعالى عنهم وأرضاهم. لكنني سأقتصر على ذكر بعض النصوص:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنهى مستصعب عليهم فمنعهم ظهره، وأن الأنصار جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنه كان لنا جمل نستني عليه، وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه، فقالت الأنصار:يا رسول الله قد صار مثل الكلْبِ الكَلِب، نخاف عليك صولته، قال: ((ليس علَّي منه بأس)) فلما نظر الجمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل نحوه، حتى خر ساجداً بين يديه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته أذل ما كانت قط، حتى أدخله في العمل.
فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذا بهيمة لا يعقل يسجد لك، ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك، قال: ((لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرة المرأة أن تسجد لزوجها، لعظم حقه عليها...)). الحديث، رواه أحمد والبزار برجال الصحيح غير حفص بن أخي أنس وهو ثقة، وروى البزار نحوه، وروى النسائي آخره، وقال المنذري: إسناده جيد، رواته ثقات مشهورون 1هـ، وقال ابن كثير: إسناد جيد. 1هـ، صححه السيوطي في تخريج أحاديث الشف. الله أعلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً من حوائط الأنصار، فإذا فيه حملان يضربان ويرعدان، فاقترب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما، فوضعا جرانهما بالأرض، فقال من معه: سجد له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لما عظَّم الله عليها من حقه))‑رواه ابن حبان، والبزار بنحوه، وروى الترمذي آخره وحسنه، وأسنادهم حسن(
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهم قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر... الحديث بطوله، وفيه: ثم سرنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا، فجاء جملُ نادُّ، فما كان بين السماطين خر ساجداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أيها الناس، من صاحب هذا الجمل؟)) فقال قتية من الأنصار: هو لنا يا رسول الله، قال: ((فما شأنه؟)) قالوا: سنونا عليه منذ عشرين سنة، فلما كبرت سنُه وكان عليه شحيمه، أردنا نحره لنقسمه بين غِلمتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبيعونية؟)) قالوا: يا سول الله هو لك، قال: ((فأحسنوا إليه حتى يأتية أجله)) قالوا: يا رسول الله نحن أحق أن نسجد لك من البهائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن)) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي، وأبو نعيم في الدلائل، والدارمي، وقال ابن كثير: هذا إسناد جيد، ورجاله ثقات(
والسجود هنا ـ كما قلت قبل قليل عند سجود الحجر والشجر ـ هو سجود تعظيم وتحية، لا سجود عبادة، لأن سجود العبادة لا يكون إلا الله عزّ وجلّ. ولما طلب الصحابة الكرام رضي الله عنهم أن يسجدوا له صلى الله عليه وسلم تعظيماً وتجلةّ وتقديراً، نهاهم عن ذلك، وأعلمهم أن هذا لا يجوز لأحد من البشر ـ حتى لو كان على سبيل التعظيم والتوقير ـ ولو جاز لأحد من الشبر لكان للمرأة أن تسجد لزوجها، لكنه لا يجوز، فسَّدَ الباب، وأغلق الميزاب، صلوات الله وسلامه عليه.
وبعد:
فهذه صور من محبة الجمادات للنبي صلى الله عليه وسلم ، مع بيان مظاهر تلك المحبة، وقد أضفت إليها صوراً من النبات والحيوان، وهي كلها لا تعقل وغير مكلفة... ومع هذا فقد ظهر منها هذا الشوق والحب والحنين، والخوف والخشية على المحبوب ـ وهو المصطفي صلى الله عليه وسلم والتعظيم والتوقير والاحترام، وكراهية الإيذاء، بل والسجود تعظيماً وتوقيراً، وإظهار الفرد والسرور وذلك بالتسبيح…
وهذا كله من جماد لا يعقل، فما بال الإنسان العاقل المدرك المكلف المأمور، فهل هو سابق الجماد والنبات والحيوان، فيَنالُ المعية وحلاوة الإيمان... أم هو دونه؟؟؟.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا محبته ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبة عباده الصالحين، على الوجه الذي يرضيه، إنه جواد كريم، نعم المولى ونعم النصير. 14 ـ سجود الجمل