فصل في بيان أفضلية ما يفعله الحاج يوم النحر
والأفضل للحاج أن يرتب هذه الأمور الأربعة يوم النحر كما ذكر : فيبدأ أولاً برمي جمرة العقبة ، ثم النحر ، ثم الحلق أو التقصير ، ثم الطواف بالبيت والسعي بعده للمتمتع ، وكذلك للمفرد والقارن إذا لم يسعيا مع طواف القدوم ، فإن قدم بعض هذه الأمور على بعض أجزأه ذلك ؛ لثبوت الرخصة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك ، ويدخل في ذلك تقديم السعي على الطواف ؛ لأنه من الأمور التي تُفعل يوم النحر ، فدخل في قول الصحابي : فما سُئل يومئذٍ عن شيء قُدَّمَ ولا أُخَّر إلا قال : " افعل ولا حرج " ولأن ذلك مما يقع فيه النسيان والجهل فوجب دخوله في هذا العموم ؛ لما في ذلك من التيسير والتسهيل ، وقد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه سئل عمن سعي قبل أن يطوف ، فقال : " لا حرج " أخرجه أبو داود ، من حديث أسامه بن شريك بإسناد صحيح ، فأتضح بذلك دخوله في العموم من غير شك ، والله الموفق .
والأمور التي يحصل للحاج بها التحلل التام ثلاثة وهي : رمي جمرة العقبة ، والحلق أو التقصير ، وطواف الإفاضة مع السعي بعده لمن ذكر آنفاً ، فإذا فعل هذه الثلاثة حل له كل شيء حرُم عليه بالإحرام من النساء والطيب وغير ذلك ، ومن فعل اثنين منها حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء ويسمى هذا بـ : التحلل الأول .
ويستحب للحاج الشرب من ماء زمزم والتضلع منه ، والدعاء بما تيسر من الدعاء النافع ، وماء زمزم لما شُرب له ، كما روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي صحيح مسلم عن أبي ذر : أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال في ماء زمزم: " إنه طعام طُعْمٍ " زاد أبو داود : " وشفاءُ سُقم " وبعد طواف الإفاضة والسعي ممن عليه سعي يرجع الحجاج إلى منى فيقيمون بها ثلاثة أيام بلياليها ، ويرمون الجمار الثلاث في كل يوم من الأيام الثلاثة بعد زوال الشمس ويجب الترتيب في رميها .
فيبدأ بالجمرة الأولى : وهي التي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، يرفع يده عند كل حصاة ويُسن أن يتقدم عنها ويجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه ويُكثر من الدعاء والتضرع.
ثم يرمي الجمرة الثانية كالأولى ، ويسن أن يتقدم قليلاً بعد رميها ويجعلها عن يمينه، ويستقبل القبلة، ويرفع يديه فيدعو كثيراً.
ثم يرمي الجمرة الثالثة ولا يقف عندها، ثم يرمي الجمرات في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال، كما رماها في اليوم الأول، ويفعل عند الأولى والثانية كما فعل في اليوم الأول؛ اقتداءً بالنبي – صلى الله عليه وسلم -.
والرمي في اليومين الأولين من أيام التشريق واجب من واجبات الحج، وكذا المبيت بمنى في الليلة الأولى والثانية واجب إلا على السقاة والرعُاة ونحوهم فلا يجب.
ثم بعد الرمي في اليومين المذكورين من أحب أن يتعجل من منى جاز له ذلك، ويخرج قبل غروب الشمس، ومن تأخر وبات الليلة الثالثة ورمى الجمرات في اليوم الثالث فهو أفضل وأعظم أجراً، كما قال الله – تعالى -: "واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى" ولأن النبي – صلى الله عليه وسلم – رخص للناس في التعجل، ولم يتعجل هو، بل أقام بمنى حتى رمى الجمرات في اليوم الثالث عشر بعد الزوال، ثم ارتحل قبل أن يُصلي الظهر.
ويجوز لولي الصبي العاجز عن مباشرة الرمي أن يرمي عنه جمرة العقبة وسائر الجمار بعد أن يرمي عن نفسه ، وهكذا البنت الصغيرة العاجزة عن الرمي يرمي عنها وليها؛ لحديث جابر – رضي الله -، قال: "حججنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ومعنا النساء والصبيان ، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم". أخرجه ابن ماجه.
ويجوز للعاجز عن الرمي لمرض أو كبر سن أو حمل أن يوكل من يرمي عنه؛ لقول الله – تعالى -: "فاتقوا الله ما استطعتم"، وهؤلاء لا يستطيعون مزاحمة الناس عند الجمرات وزمن الرمي يفوت ولا يُشرع قضاؤه فجاز لهم أن يوكلوا بخلاف غيره من المناسك فلا ينبغي للمحرم أن يستنيب من يؤديه عنه ولو كان حجه نافلة؛ لأن من أحرم بالحج أو العمرة – ولو كانا نفلين – لزمه إتمامهما؛ لقول الله – تعالى -: "وأتموا الحج والعمرة لله"، وزمن الطواف والسعي لا يفوت بخلاف زمن الرمي .
وأما الوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ومنى ، فلا شك أن زمنها يفوت ، ولكن حصول العاجز في هذه المواضع ممكن ولو مع المشقة ، بخلاف مباشرته للرمي ، ولأن الرمي قد وردت الاستنابة فيه عن السلف الصالح في حق المعذور بخلاف غيره .
والعبادات توقيفية ليس لأحد أن يُشرع منها شيئاً إلا بحجة، ويجوز للنائب أن يرمي عن نفسه ثم عن مستنيبه كل جمرة من الجمار الثلاث ، وهو في موقف واحد ، ولا يجب عليه أن يكمل رمي الجمار الثلاث عن نفسه ثم يرجع فيرمي عن مستنيبه في أصح قولي العلماء لعدم الدليل الموجب لذلك، ولما في ذلك من المشقة والحرج ، والله – سبحانه وتعالى – يقول : " وما جعل عليكم في الدين من حرج"، وقـال النبي – صلى الله عليه وسـلم - : " يسَّروا ولا تُعسروا " ولأن ذلك لم ينقل عن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين رموا عن صبيانهم والعاجز منهم ، ولو فعلوا ذلك لنقل ؛ لأنه مما تتوافر الهمم على نقله . والله أعلم .
__________________